فصل: بَابُ ذِكْرِ الْآيَةِ الرَّابِعَةِ قَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ} (المائدة: 13).

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الناسخ والمنسوخ



.بَابُ ذِكْرِ الْآيَةِ الْعَاشِرَةِ:

قَالَ جَلَّ وَعَزَّ: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93].
فَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ: لَا تَوْبَةَ لِمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا وَبَعْضُ مَنْ قَالَ هَذَا قَالَ الْآيَةُ الَّتِي فِي الْفُرْقَانِ مَنْسُوخَةٌ بِالْآيَةِ الَّتِي فِي النِّسَاءِ فَهَذَا قَوْلٌ وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ: لَهُ تَوْبَةٌ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا لَا يَقَعُ فِيهِ نَاسِخٌ وَلَا مَنْسُوخٌ لِأَنَّهُ خَبَرٌ وَوَعِيدٌ وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ مُتَوَلٍّ عِقَابَهُ تَابَ أَوْ لَمْ يَتُبْ إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ وَإِنْ شَاءَ أَدْخَلَهُ النَّارَ وَأَخْرَجَهُ مِنْهَا وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ الْمَعْنَى فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ إِنْ جَازَاهُ وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ التَّقْدِيرُ وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا مُسْتَحِلًّا لِقَتْلِهِ فَهَذَا جَزَاؤُهُ لِأَنَّهُ كَافِرٌ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: فَهَذِهِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ فَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَنَّهُ لَا تَوْبَةَ لِلْقَاتِلِ مَرْوِيٌّ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ كَمَا قُرِئَ عَلَى أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَجَّاجِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُكَيْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ أَخْبَرَنِي خَالِدٌ، وَهُوَ ابْنُ يَزِيدَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ، عَنْ جَهْمِ بْنِ أَبِي الْجَهْمِ، أَنَّ أَبَا الزِّنَادِ، أَخْبَرَهُ، أَنَّ، خَارِجَةَ بْنَ زَيْدٍ أَخْبَرَهُ، عَنْ، أَبِيهِ، زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتِ الْآيَةُ الَّتِي فِي الْفُرْقَانِ {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ} [الفرقان: 68] عَجِبْنَا لِلِينِهَا فَنَزَلَتْ الَّتِي فِي النِّسَاءِ {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93] حَتَّى فَرَغَ.
وقُرِئَ عَلَى أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ أَخْبَرَنِي الْقَاسِمُ بْنُ أَبِي بَزَّةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ: هَلْ لِمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا مِنْ تَوْبَةٍ؟ قَالَ: لَا وَقَرَأْتُ عَلَيْهِ الْآيَةَ الَّتِي فِي الْفُرْقَانِ {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} [الفرقان: 68] فَقَالَ هَذِهِ آيَةٌ مَكِّيَّةٌ نَسَخَتْهَا آيَةٌ مَدَنِيَّةٌ {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ} [النساء: 93].
قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَأَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمَّارٍ الدُّهْنِيِّ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ، سُئِلَ عَمَّنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا ثُمَّ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى فَقَالَ: وَأَنَّى لَهُ بِالتَّوْبَةِ وَقَدْ سَمِعْتُ نَبِيَّكُمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «يَجِيءُ مُتَعَلِّقًا بِالْقَاتِلِ تَشْخَبُ أَوْدَاجُهُ دَمًا يَقُولُ أَيْ رَبِّ سَلْ هَذَا فِيمَ قَتَلَنِي» ثُمَّ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَاللَّهِ لَقَدْ أَنْزَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى ثُمَّ مَا نَسَخَهَا.
قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَأَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ حَكِيمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ يَعْلَى بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَزَوَالُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ قَتْلِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ».
قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَأَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ فَضَالَةَ، قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنِ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَقَتَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ. قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الْقَاتِلُ فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟ قَالَ: إِنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَقْتُلَ صَاحِبَهُ».
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: فَهَذِهِ أَحَادِيثُ صِحَاحٌ يَحْتَجُّ بِهَا أَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ مَعَ مَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ» وَعَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ وَمَنْ أَعَانَ عَلَى قَتْلِ مُسْلِمٍ بِشَطْرِ كَلِمَةٍ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ يَائِسٌ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ».
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَالْقَوْلُ الثَّانِي أَنَّ لَهُ تَوْبَةً قَولُ جَمَاعَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَهُوَ أَيْضًا مَرْوِيٌّ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ.
كَمَا قُرِئَ عَلَى بَكْرِ بْنِ سَهْلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَالِحٍ، قَالَ حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ بُخْتٍ، عَنْ نَافِعٍ، أَو سَالِمٍ، أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ كَيْفَ تَرَى فِي رَجُلٍ قَتَلَ رَجُلًا عَمْدًا؟ قَالَ: أَأَنْتَ قَتَلْتَهُ؟. قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: تُبْ إِلَى اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ يَتُبْ عَلَيْكَ.
وَحَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا أَبُو مَالِكٍ الْأَشْجَعِيُّ، عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ: أَلِمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا تَوْبَةٌ؟. قَالَ: لَا إِلَّا النَّارَ. قَالَ: فَلَمَّا ذَهَبَ قَالَ لَهُ جُلَسَاؤُهُ أَهَكَذَا كُنْتَ تُفْتِينَا كُنْتَ تُفْتِينَا أَنَّ لِمَنْ قَتَلَ تَوْبَةً مَقْبُولَةً قَالَ: إِنِّي لَأَحْسِبُهُ رَجُلًا مُغْضَبًا يُرِيدُ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا قَالَ فَبَعَثُوا فِي أَثَرِهِ فَوَجَدُوهُ كَذَلِكَ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَأَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ حُجَجُهُمْ ظَاهِرَةٌ مِنْهَا قَوْلُ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ} [طه: 82] {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} [الشورى: 25] وَقَدْ بَيَّنَّا فِي أَوَّلِ هَذَا الْكِتَابِ أَنَّ الْأَخْبَارَ لَا يَقَعُ فِيهَا نَسْخٌ وَقَدِ اخْتُلِفَ عَنِ، ابْنِ عَبَّاسٍ، أَيْضًا فَرُوِيَ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الشِّرْكِ يَعْنِي الَّتِي فِي الْفُرْقَانِ وَعَنْهُ نَسَخَتْهَا الَّتِي فِي النِّسَاءِ فَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: مَعْنَى نَسَخَتْهَا نَزَلَتْ بِنُسْخَتِهَا.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَلَيْسَ يَخْلُو أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ الَّتِي فِي النِّسَاءِ نَزَلَتْ بَعْدَ الَّتِي فِي الْفُرْقَانِ كَمَا رُوِيَ عَنْ زَيْدٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنْ زَيْدٍ أَنَّ الَّتِيَ فِي الْفُرْقَانِ نَزَلَتْ بَعْدَهَا أَوْ يَكُونُ هَذَا وَتَكُونُ الَّتِي فِي الْفُرْقَانِ نَزَلَتْ بَعْدَهَا أَوْ تَكُونَا نَزَلَتَا مَعًا وَلَيْسَ ثَمَّ قِسْمٌ رَابِعٌ فَإِنْ كَانَتِ الَّتِي فِي النِّسَاءِ نَزَلَتْ بَعْدَ الَّتِي فِي الْفُرْقَانِ فَهِيَ مُبَيِّنَةٌ عَلَيْهَا كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ} [المائدة: 72] مَبْنِيٌّ عَلَى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] وَإِنْ كَانَتِ الَّتِي فِي الْفُرْقَانِ نَزَلَتْ بَعْدَ الَّتِي فِي النِّسَاءِ فَهِيَ مُبَيِّنَةٌ لَهَا فَإِنْ كَانَتَا نَزَلَتَا مَعًا فَإِحْدَاهُمَا مَحْمُولَةٌ عَلَى الْأُخْرَى وَهَذَا بَابٌ مِنَ النَّظَرِ إِذَا تَدَبَّرْتَهُ عَلِمْتَ أَنَّهُ لَا مَدْفَعَ لَهُ مَعَ مَا يُقَوِّي ذَلِكَ مِنَ الْمُحْكَمِ الَّذِي لَا يُنَازَعُ فِيهِ وَهُوَ قَوْلُهُ {وَإِنِّي لِغِفَارَ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ} [طه: 82] وَأَمَّا الْقَوْلُ الثَّالِثُ أَنَّ أَمْرَهُ إِلَى اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ تَابَ أَوْ لَمْ يَتُبْ فَعَلَيْهِ الْفُقَهَاءُ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَالشَّافِعِيُّ أَيْضًا يَقُولُ فِي كَثِيرٍ مِنْ هَذَا إِلَّا أَنْ يَعْفُوَ اللَّهُ عَنْهُ أَوْ مَعْنَى هَذَا وَأَمَّا الْقَوْلُ الرَّابِعُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي مِجْلَزٍ إِنَّ الْمَعْنَى إِنْ جَازَاهُ فَالْغَلَطُ فِيهِ بَيِّنٌ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا} [الكهف: 106] وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مَعْنَاهُ إِنْ جَازَاهُمْ وَهُوَ خَطَأٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ لِأَنَّ بَعْدَهُ {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ} [النساء: 93] وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَعْنَى جَازَاهُ وَأَمَّا الْقَوْلُ الْخَامِسُ إِنَّ الْمَعْنَى {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} [النساء: 93] مُسْتَحِلًّا لِقَتْلِهِ فَغَلَطٌ لِأَنَّ مَنْ عَامٌّ لَا يُخَصُّ إِلَّا بِتَوْقِيفٍ أَوْ دَلِيلٍ قَاطِعٍ، وَهَذَا الْقَوْلُ يُقَالُ إِنَّهُ قَوْلُ عِكْرِمَةَ لِأَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ قَتَلَ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا ثُمَّ ارْتَدَّ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: فَهَذِهِ عَشْرُ آيَاتٍ قَدْ ذَكَرْنَاهَا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ وَرَأَيْتُ بَعْضَ الْمُتَأَخِّرِينَ قَدْ ذَكَرَ آيَةً سِوَى هَذِهِ الْعَشَرِ وَهِيَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101].
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَإِنَّمَا لَمْ أُفْرِدْ لَهَا بَابًا لِأَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ عِنْدِي أَنَّهَا نَاسِخَةٌ وَلَا مَنْسُوخَةٌ وَلَا ذَكَرَهَا أَحَدٌ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَيْنِكَ فَنَذْكُرُ قَوْلَهُ وَلَيْسَ يَخْلُو أَمْرُهَا مِنْ إِحْدَى ثَلَاثِ جِهَاتٍ لَيْسَ فِي وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ نَسْخٌ وَذَلِكَ أَنَّ الَّذِيَ قَالَ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ يَحْتَجُّ بِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَزَّ قَالَ: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101] قَالَ فَكَانَ فِي هَذَا مَنْعٌ مِنْ قَصْرِ الصَّلَاةِ إِلَّا فِي الْخَوْفِ ثُمَّ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَصَرَ فِي غَيْرِ الْخَوْفِ آمِنٌ مَا كَانَ النَّاسُ فِي السَّفَرِ، فَجَعَلَ فِعْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَاسِخًا لِلْآيَةِ وَهَذَا غَلَطٌ بَيِّنٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْآيَةِ مَنْعٌ لِلْقَصْرِ فِي الْأَمْنِ وَإِنَّمَا فِيهَا إِبَاحَةُ الْقَصْرِ فِي الْخَوْفِ فَقَطْ وَالْجِهَاتُ الَّتِي فِيهَا عَنِ الْعُلَمَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْهُنَّ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ حُدُودِهَا فِي حَالِ الْخَوْفِ وَذَلِكَ تَرْكُ إِقَامَةِ رُكُوعِهَا وَسُجُودِهَا وَأَدَاؤهَا كَيْفَ أَمْكَنَ، مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ وَمُسْتَدْبِرَهَا وَمَاشِيًا وَرَاكِبًا فِي حَالِ الْحَرْبِ وَهِيَ حَالُ الْخَوْفِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة: 239] وَهَكَذَا يُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَهَذَا قَوْلٌ وَهُوَ اخْتِيَارُ مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ وَاسْتَدَلَّ عَلَى صِحَّتِهِ بِأَنَّ بَعْدَهُ {فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [النساء: 103] فَإِقَامَتُهَا إِتْمَامُ رُكُوعِهَا وَسُجُودِهَا وَسَائِرِ فَرَائِضِهَا وَتَرْكُ إِقَامَتِهَا فِي غَيْرِ الطُّمَأْنِينَةِ هُوَ تَرْكُ إِقَامَةِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَمِنَ الْجِهَاتِ فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ قَالُوا: قَصْرُ صَلَاةِ الْخَوْفِ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَةً وَاحِدَةً لِأَنَّ صَلَاةَ الْمُسَافِرِ رَكْعَتَيْنِ لَيْسَ بِقَصْرٍ لِأَنَّ فَرْضَهَا رَكْعَتَانِ وَمِمَّنْ صَحَّ عَنْهُ: فُرِضَتِ الصَّلَاةُ رَكْعَتَيٍنِ ثُمَّ أَتَمَّتْ صَلَاةَ الْمُقِيمِ وَأَقَرَّتْ صَلَاةَ الْمُسَافِرِ بِحَالِهَا عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَمِمَّنْ قَالَ صَلَاةُ الْخَوْفِ رَكْعَةٌ وَاحِدَةٌ حُذَيْفَةُ، وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ.
كَمَا قُرِئَ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ حَفْصٍ، عَنْ خَلَفِ بْنِ هِشَامٍ الْمُقْرِئِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ الْأَخْنَسِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «فَرَضَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ الصَّلَاةَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُقِيمِ أَرْبَعًا وَلِلْمُسَافِرِ رَكْعَتَيْنِ وَفِي الْخَوْفِ رَكْعَةً».
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَفِي الْآيَةِ قَوْلٌ ثَالِثٌ عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ وَذَلِكَ أَنْ تَكُونَ صَلَاةُ الْخَوْفِ رَكْعَتَيْنِ مَقْصُورَةً مِنْ أَرْبَعٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ وَصَلَاةُ السَّفَرِ فِي الْأَمْنِ رَكْعَتَانِ مَقْصُورَةً فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا بِالْقُرْآنِ وَلَا بِنَسْخٍ لِلْقُرْآنِ.
وَيَدُلُّكَ عَلَى صِحَّةِ هَذَا مَا قُرِئَ عَلَى يَحْيَى بْنِ أَيُّوبَ، عَنِ ابْنِ أَبِي مَرْيَمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ جُرَيْجٍ، أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي عَمَّارٍ حَدَّثَهُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَابَيْهِ عَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ أَنَّهُ قَالَ: سَأَلْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قُلْتُ: أَرَأَيْتَ قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا} [النساء: 101] مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا، فَقَدْ زَالَ الْخَوْفُ فَمَا بَالُ الْقَصْرِ؟ فَقَالَ: عَجِبْتُ مِمَّا عَجِبْتَ مِنْهُ فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «هِيَ صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوهَا».
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: فَلَمْ يَقُلْ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ نُسِخَ ذَلِكَ وَإِنَّمَا نَسَبُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى الرُّخْصَةِ فَصَحَّ قَوْلُ مَنْ قَالَ قَصْرُ صَلَاةِ السَّفَرِ بِالسُّنَّةِ وَقَصْرُ صَلَاةِ الْخَوْفِ بِالْقُرْآنِ، وَلَا يُقَالُ مَنْسُوخٌ لِمَا ثَبَتَ فِي التَّنْزِيلِ وَصَحَّ فِيهِ التَّأْوِيلُ إِلَّا بِتَوْقِيفٍ أَوْ بِدَلِيلٍ قَاطِعٍ.

.سورة الْمَائِدَةِ:

اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ لَمْ يُنْسَخْ مِنْهَا شَيْءٌ وَمِنْهُمْ مَنِ احْتَجَّ بِأَنَّهَا آخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِيهَا مَنْسُوخٌ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: كَمَا حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بنُ مُجَاشِعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي مَيْسَرَةَ، قَالَ: لَمْ يُنْسَخْ مِنَ الْمَائِدَةِ شَيْءٌ.
وقُرِئَ عَلَى إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يُونُسَ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ شُجَاعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، قَالَ أَخْبَرَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ أَبِي الزَّاهِرِيَّةِ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نَفِيرٍ، قَالَ: حَجَجْتُ فَدَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ فَقَالَتْ: هَلْ تَقْرَأُ سُورَةَ الْمَائِدَةِ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَتْ: أَمَا إِنَّهَا آخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهَا حَلَالًا فَاسْتَحِلُّوهُ وَمَا وَجَدْتُمْ فِيهَا حَرَامًا فَحَرِّمُوهُ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَمِمَّا يُحْتَجُّ بِهِ فِي هَذَا حَدِيثُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ قَرَأَ {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] فَقَالَ بَعْضُ الْيَهُودِ: لَوْ نَزَلَتْ هَذِهِ عَلَيْنَا فِي يَوْمٍ لَاتَّخَذْنَاهُ عِيدًا فَقَالَ عُمَرُ كَانَ فِي الْيَوْمِ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ عِيدَانِ نَزَلَتْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ يَوْمَ عَرَفَاتٍ يَعْنِي فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: فَأَمَّا الْبَرَاءُ فَإِنَّهُ قَالَ: آخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ بَرَاءَةٌ وَآخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} [النساء: 176] وَهَذَا لَيْسَ بِمُتَنَاقِضٍ لِأَنَّهُمَا جَمِيعًا مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْمَائِدَةِ مَنْسُوخٌ لَاحْتَجْنَا إِلَى ذِكْرِهَا لِأَنَّ فِيهَا نَاسِخًا وَهَذَا الْكِتَابُ يَشْتَمِلُ عَلَى النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ عَلَى أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْعُلَمَاءِ قَدْ ذَكَرُوا فِيهَا آيَاتٍ مَنْسُوخَةً وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِيهَا آيَةٌ وَاحِدَةٌ مَنْسُوخَةٌ.
كَمَا حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ نَافِعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنْ بَيَانٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: لَيْسَ فِي الْمَائِدَةِ مَنْسُوخٌ إِلَّا قَوْلُهُ جَلَّ وَعَزَّ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ} [المائدة: 2] الْآيَةَ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَهَذِهِ الْآيَةُ الْأُولَى مِمَّا نَذْكُرُهُ مِنْهَا.

.بَابُ ذِكْرِ الْآيَةِ الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ:

قَالَ جَلَّ وَعَزَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} [المائدة: 2].
ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَحْكَامَ الْخَمْسَةَ مَنْسُوخَةٌ وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ فِيهَا مَنْسُوخًا وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهَا مُحْكَمَةٌ فَمِمَّنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ قَتَادَةُ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ نَافِعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ جَلَّ وَعَزَّ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} [المائدة: 2] قَالَ: مَنْسُوخٌ كَانَ الرَّجُلُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا خَرَجَ يُرِيدُ الْحَجَّ تَقَلَّدَ مِنَ السَّمَرِ فَلَا يَعْرِضُ لَهُ أَحَدٌ وَإِذَا تَقَلَّدَ قِلَادَةَ شَعْرٍ لَمْ يَعْرِضْ لَهُ أَحَدٌ وَكَانَ الْمُشْرِكُ يَوْمَئِذٍ لَا يُصَدُّ عَنِ الْبَيْتِ فَأَمَرَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ أَنْ لَا يُقَاتَلَ الْمُشْرِكُونَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ وَلَا عِنْدَ الْبَيْتِ ثُمَّ نَسَخَتْهَا قَوْلُهُ جَلَّ وَعَزَّ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5].
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ سَهْلٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحِ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: وَقَوْلُهُ: جَلَّ وَعَزَّ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} [المائدة: 2] فَكَانَ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُشْرِكُونَ يَحُجُّونَ إِلَى الْبَيْتِ جَمِيعًا فَنَهَى أَنْ يُمْنَعَ أَحَدٌ مِنَ الْحَجِّ إِلَى الْبَيْتِ مِنْ مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ بَعْدَ هَذَا {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28] وَقَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة: 18] وَقَالَ تَعَالَى {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ} [التوبة: 17] فَنَفَى الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ.
وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ {لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ} [المائدة: 2] كَانَ الْمُشْرِكُونَ يُعَظِّمُونَ أَمْرَ الْحَجِّ وَيَهْدُونَ الْهَدَايَا إِلَى الْبَيْتِ وَيُعَظِّمُونَ حُرْمَتَهُ فَأَرَادَ الْمُسْلِمُونَ أَنْ يُغَيِّرُوا ذَلِكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ} [المائدة: 2].
فَهَذَا عَلَى تَأْوِيلِ النَّسْخِ فِي الْأَحْكَامِ الْخَمْسَةِ بِإِبَاحَةِ قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَمَنَعَهُمْ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ.
فأما مُجَاهِدٌ فَقَالَ لَمْ يُنْسَخْ مِنْهَا إِلَّا الْقَلَائِدُ كَانَ الرَّجُلُ يَتَقَلَّدُ بشَيْءٍ مِنْ لِحَا الْحَرَمِ فَلَا يُقْرَبُ فَنُسِخَ ذَلِكَ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَعَلَى مَذْهَبِ أَبِي مَيْسَرَةَ أَنَّهَا مُحْكَمَةٌ وَأَمَّا عَطَاءٌ فَقَالَ: {لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ} [المائدة: 2] أَيْ لَا تَتَعَرَّضُوا مَا يُسْخِطُهُ وَاتَّبِعُوا طَاعَتَهُ وَاجْتَنِبُوا مَعَاصِيَهُ، فَهَذَا لَا نَسْخَ فِيهِ وَهُوَ قَوْلٌ حَسَنٌ لِأَنَّ وَاحِدَ الشَّعَائِرِ شَعِيرَةٌ مِنْ شَعَرْتُ بِهِ أَيْ عَلِمْتُ بِهِ فَيَكُونُ الْمَعْنَى لَا تُحِلُّوا مَعَالِمَ اللَّهِ وَهِيَ أَمْرُهُ وَنَهْيُهُ وَمَا أَعْلَمَهُ النَّاسَ فَلَا تُخَالِفُوهُ وَقَدْ رُوِيَ عَنِ، ابْنِ عَبَّاسٍ الْهَدْيُ، مَا لَمْ يُقَلَّدْ وَقَدْ عَزَمَ صَاحِبُهُ عَلَى أَنْ يَهْدِيَهُ وَالْقَلَائِدُ مَا قُلِّدَ.
فأما الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ فَتَأَوَّلَ مَعْنَى وَلَا الْقَلَائِدَ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا مِنْ شَجَرِ الْحَرَمِ فَيَتَقَلَّدُوهُ وَهُذَا قَوْلٌ شَاذٌّ بَعِيدٌ وَقَوْلُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ إِنَّهُمْ نُهُوا أَنْ يُحِلُّوا مَا قُلِّدَ فَيَأْخُذُوهُ وَيُغْصِبُوهُ فَمَنْ قَالَ مَنْسُوخٌ فَحُجَّتُهُ بَيِّنَةٌ أَنَّ الْمُشْرِكَ حَلَالُ الدَّمِ وَإِنْ تَقَلَّدَ مِنْ شَجَرِ الْحَرَمِ وَهَذَا بَيِّنٌ جِدًّا وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ مِمَّا ذُكِرَ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ قَوْلُهُ جَلَّ وَعَزَّ: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا} [المائدة: 2] قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ هَذَا كُلُّهُ مَنْسُوخٌ نَسَخَهُ الْجِهَادُ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: ذَهَبَ ابْنُ زَيْدٍ إِلَى أَنَّهُ لَمَّا جَازَ قِتَالُهُمْ لِأَنَّهُمْ كُفَّارٌ جَازَ أَنْ يَعْتَدِيَ عَلَيْهِمْ وَيَبْدَءُوا بِالْقِتَالِ وَأَمَّا غَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ فَذَهَبَ إِلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مَنْسُوخَةً فَمِمَّنْ قَالَ ذَلِكَ مُجَاهِدٌ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَعَنَ اللَّهُ مَنْ قَتَلَ بِذَحْلٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَأَهْلُ التَّأْوِيلِ أَوْ أَكْثَرُهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى لَا يَحْمِلَنَّكُمْ إِبْغَاضُ قَوْمٍ لَأَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى أَنْ تَعْتَدُوا لِأَنَّ سُورَةَ الْمَائِدَةِ نَزَلَتْ بَعْدَ يَوْمِ الْحُدَيْبِيَةِ وَالْبَيِّنُ عَلَىهَذَا أَنْ تَقْرَأَ {أَنْ صَدُّوكُمْ} [المائدة: 2] بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ لِأَنَّهُ شَيْءٌ قَدْ تَقَدَّمَ وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ.

.بَابُ ذِكْرِ الْآيَةِ الثَّانِيَةِ:

قَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} [المائدة: 5].
فَقَالُوا فِيهَا ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: أُحِلَّ لَنَا طَعَامُ أَهْلِ الْكِتَابِ وَإِنْ ذَكَرُوا عَلَيْهِ غَيْرَ اسْمِ اللَّهِ فَكَانَ هَذَا نَاسِخًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [المائدة: 3] وَقَالَ قَوْمٌ لَيْسَ هَذَا نَسْخًا وَلَكِنَّهُ مُسْتَثْنًى مِنْ ذَاكَ وَقَالَ آخَرُونَ لَيْسَ بِنَسْخٍ وَلَا اسْتِثْنَاءٍ وَلَكِنْ إِذَا ذَكَرَ أَهْلُ الْكِتَابِ غَيْرَ اسْمِ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ لَمْ تُؤْكَلْ ذَبِيحَتُهُمْ، فَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ كَمَا قَالَ عَطَاءٌ كُلْ مِنْ ذَبِيحَةِ النَّصْرَانِيِّ وَإِنْ قَالَ بِاسْمِ الْمَسِيحِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَحَلَّ ذَبَائِحَهُمْ وَقَدْ عَلِمَ مَا يَقُولُونَ وَقَالَ الْقَاسِمُ بْنُ مُخَيْمِرَةَ كُلْ مِنْ ذَبِيحَتِهِ وَإِنْ قَالَ بِاسْمِ جِرْجِسَ، وَهُوَ قَوْلُ رَبِيعَةَ، وَالشَّعْبِيِّ وَيُرْوَى عَنْ صَحَابِيَّيْنِ أَبِي الدَّرْدَاءِ، وَعُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ وَأَصْحَابُ الْقَوْلِ الثَّانِي يَقُولُونَ هَذَا اسْتِثْنَاءٌ وَحَلَالٌ أَكْلُهُ وَأَصْحَابُ الْقَوْلِ الثَّالِثِ يَقُولُونَ إِذَا سَمِعْتَ الْكِتَابِيَّ يُسَمِّي غَيْرَ اللَّهِ فَلَا تَأْكُلْ وَقَالَ بِهَذَا مِنَ الصَّحَابَةِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَعَائِشَةُ، وَابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَهُوَ قَوْلُ طَاوُسٍ، وَالْحَسَنِ وَقَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ أَكْرَهُ ذَلِكَ وَلَمْ يُحَرِّمْهُ وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي ذَبَائِحِ نَصَارَى بَنِي تَغْلِبٍ فَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ يَقُولُ هُمْ بِمَنْزِلَةِ النَّصَارَى تُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ وَتَتَزَوَّجُ الْمُحْصَنَاتُ مِنْ نِسَائِهِمْ فَمِمَّنْ قَالَ هَذَا ابْنُ عَبَّاسٍ بِلَا اخْتِلَافٍ عَنْهُ وَقَالَ آخَرُونَ لَا تُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ وَلَا يُتَزَوَّجُ فِيهِمْ لِأَنَّهُمْ عَرَبٌ وَإِنَّمَا دَخَلُوا فِي النَّصْرَانِيَّةِ، فَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ هَذَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
كَمَا قُرِئَ عَلَى أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَجَّاجِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَشْعَثُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: مَا عَلِمْتُ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرَّمَ ذَبَائِحَ بَنِي تَغْلِبَ إِلَّا عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَعَارَضَهُ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ بِأَنَّ الْحَدِيثَ الْمَرْوِيَّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الصَّحِيحُ أَنَّهُ قَالَ: لَا تَأْكُلُوا ذَبَائِحَ بَنِي تَغْلِبَ وَلَا تَتَزَوَّجُوا فِيهِمْ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَتَعَلَّقُوا مِنَ النَّصْرَانِيَّةِ إِلَّا بِشُرْبِ الْخَمْرِ، قَالَ: فَدَلَّ هَذَا أَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا عَلَى مِلَّةِ النَّصَارَى فِي كُلِّ أُمُورِهِمْ لَأُكِلَتْ ذَبَائِحُهُمْ وَتُزُوِّجَ فِيهِمْ قَالَ وَقَدْ قَامَتِ الْحُجَّةُ عَلَى أَكْلِ ذَبَائِحِ النَّصَارَى وَالتَّزَوُّجِ فِيهِمْ وَهُمْ مِنَ النَّصَارَى وَقَدِ احْتَجَّ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: قَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51] فَلَوْ لَمْ تَكُنْ بَنُو تَغْلِبَ مِنَ النَّصَارَى إِلَّا بِتَوْلِيَتِهِمْ إِيَّاهُمْ لَأُكِلَتْ ذَبَائِحُهُمْ.
فأما الْمَجُوسُ فَالْعُلَمَاءُ مُجْمِعُونَ إِلَّا مَنْ شَذَّ مِنْهُمْ عَلَى أَنَّ ذَبَائِحَهُمْ لَا تُؤْكَلُ وَلَا يُتَزَوَّجُ فِيهِمْ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا أَهْلَ كِتَابٍ وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كِتَابِهِ إِلَى كِسْرَى فَلَمْ يُخَاطِبْهُمْ بِأَنَّهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ وَخَاطَبَ قَيْصَرَ بِغَيْرِ ذَلِكَ فَقَالَ: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [آل عمران: 64] الْآيَةَ، وَقَدْ عَارَضَ مُعَارِضٌ بِالْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّهُ قَالَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْمَجُوسِ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ أَنْزِلُوهُمْ مَنْزِلَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَهَذَا الْحَدِيثُ لَا حُجَّةَ فِيهِ مِنْ جِهَاتٍ إِحْدَاهَا أَنَّهُ قَدْ غَلَطَ فِي مَتْنِهِ وَأَنَّ إِسْنَادَهُ غَيْرُ مُتَّصِلٍ فَلَا تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ، وَهَذَا الْحَدِيثُ حَدَّثَنَاهُ بَكْرُ بنُ سَهْلٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يوسُفَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ، أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا أَدْرِي كَيْفَ أَعْمَلُ فِي أَمْرِ الْمَجُوسِ فَشَهِدَ عِنْدَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ».
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: فَالْإِسْنَادُ مُنْقَطِعٌ لِأَنَّ مُحَمَّدَ بنَ عَلِيٍّ لَمْ يُولَدْ فِي وَقْتِ عُمَرَ وَأَمَّا الْمَتْنُ فَيُقَالُ إِنَّهُ عَلَى غَيْرِ هَذَا كَمَا حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْأَزْدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ بِشْرٍ الْكُوفِيُّ، قَالَ سَمِعْتُ سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ، يَقُولُ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، سَمِعَ بَجَالَةَ، يَقُولُ: «إِنَّ عُمَرَ لَمْ يَكُنْ أَخَذَ مِنَ الْمَجُوسِ الْجِزْيَةَ حَتَّى شَهِدَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَهَا مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ» فَهَذَا إِسْنَادُهُ مُتَّصِلٌ صَحِيحٌ وَلَوْ صَحَّ الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ مَا كَانَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَكْلِ ذَبَائِحِ الْمَجُوسِ وَلَا تَزَوُّجِ نِسَائِهِمْ لِأَنَّ قَوْلَهُ سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَأَيْضًا فَإِنَّمَا نُقِلَ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّهُ فِي الْجِزْيَةِ خَاصَّةً وَأَيْضًا فَسُنُّوا بِهِمْ لَيْسَ مِنَ الذَّبَائِحِ فِي شَيْءٍ لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلِ اسْتَنُّوا أَنْتُمْ فِي أَمْرِهِمْ بِشَيْءٍ.
فأما الِاحْتِجَاجُ بِأَنَّ حُذَيْفَةَ تَزَوَّجَ مَجُوسِيَّةً فَغَلَطٌ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ تَزَوَّجَ يَهُودِيَّةً وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلَكُمْ} [المائدة: 5] وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي قَوْلِهِ {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} [البقرة: 221] وَقَوْلُ مَنْ قَالَ إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَاسِخَةٌ لِتِلْكَ وَاخْتَلَفُوا فِي الْآيَةِ الثَّالِثَةِ فَقَالُوا فِيهَا سَبْعَةَ أَقْوَالٍ.

.بَابُ ذِكْرِ الْآيَةِ الثَّالِثَةِ:

قَالَ جَلَّ وَعَزَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] الْآيَةَ.
فِيهَا سَبْعَةُ أَقْوَالٍ: فَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ: هِيَ نَاسِخَةٌ لِقَوْلِهِ جَلَّ وَعَزَّ {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43]، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هِيَ نَاسِخَةٌ لِمَا كَانُوا عَلَيْهِ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا أَحْدَثَ لَمْ يُكَلِّمْ أَحَدًا حَتَّى يَتَوَضَّأَ وضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ فَنُسِخَ هَذَا وَأُمِرَ بِالطَّهَارَةِ عِنْدَ الْقِيَامِ إِلَى الصَّلَاةِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ تُنْسَخْ لَوَجَبَ عَلَى كُلِّ قَائِمٍ إِلَى الصَّلَاةِ الطَّهَارَةُ وَإِنْ كَانَ مُتَطَهِّرًا وَالنَّاسِخُ لَهَا فِعْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَنَذْكُرُهُ بِإِسْنَادِهِ وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ: يَجِبُ عَلَى كُلِّ مَنْ قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ أَنْ يَتَوَضَّأَ لِلصَّلَاةِ بِظَاهِرِ الْآيَةِ وَإِنْ كَانَ طَاهِرًا فَهَذَا قَوْلُ عِكْرِمَةَ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَاحْتَجَّ عِكْرِمَةُ، بِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
كَمَا حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدٍ الْأَزْدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مَرْزُوقٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عُمَرَ، وَعَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ، قَالَا: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مَسْعُودِ بْنِ عَلِيٍّ، قَالَ: كَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلَاةٍ وَيَتْلُو: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] الْآيَةَ وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَقُولُ يَنْبَغِي لِكُلِّ مَنْ قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ أَنْ يَتَوَضَّأَ لَهَا طَلَبًا لِلْفَضْلِ، وَحَمَلَ الْآيَةَ عَلَى النَّدْبِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ الْآيَةُ مَخْصُوصَةٌ لِمَنْ قَامَ مِنَ النَّوْمِ وَالْقَوْلُ السَّابِعُ: أَنَّ الْآيَةَ يُرَادُ بِهَا مَنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى طَهَارَةٍ فَهَذِهِ سَبْعَةُ أَقْوَالٍ.
فأما الْقَوْلُ الْأَوَّلُ إِنَّهَا نَاسِخَةٌ لِقَوْلِ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43] فَقَدْ ذَكَرْنَاهُ بِإِسْنَادِهِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ وَلَا يُبَيَّنُ فِي هَذَا نَسْخٌ يَكَوْنُ التَّقْدِيرُ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ غَيْرَ سُكَارَى وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَحْتَجُّ مَنْ قَالَهُ بِحَدِيثِ عَلْقَمَةَ بْنِ الْفَغْوَاءِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا بَالَ لَمْ يُكَلِّمْ أَحَدًا حَتَّى يَتَوَضَّأَ لِلصَّلَاةِ حَتَّى نَزَلَتْ آيَةُ الرُّخْصَةِ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} [المائدة: 6].
وقُرِئَ عَلَى أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بَشَّارٍ، عَنِ ابْنِ مُعَاذٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ حُصَيْنِ بْنِ الْمُنْذِرِ أَبِي سَاسَانَ، عَنِ الْمُهَاجرِ بْنِ قُنْفُذٍ، أَنَّهُ: «سَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَبُولُ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ حَتَّى تَوَضَّأَ فَلَمَّا تَوَضَّأَ رَدَّ عَلَيْهِ».
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَهَذَا أَيْضًا لَا يَتَبَيَّنُ فِيهِ نَسْخٌ لِأَنَّهُ مُبَاحٌ فِعْلُهُ وَمَنْ قَالَ: الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ بِفِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاحْتَجَّ بِمَا حَدَّثَنَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَانَ يَتَوَضَّأُ وضُوءَهُ لِكُلِّ صَلَاةٍ فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْفَتْحِ صَلَّى الصَّلَوَاتِ بِوَضُوءٍ وَاحِدٍ وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ» فَقَالَ عُمَرُ: لَقَدْ فَعَلْتَ شَيْئًا مَا كُنْتَ تَفْعَلُهُ فَقَالَ: «عَمْدًا فَعَلْتُهُ» وَمَنْ مَنَعَ أَنْ يُنْسَخَ الْقُرْآنُ بِالسُّنَّةِ قَالَ هَذَا تَبْيِينٌ وَلَيْسَ بِنَسْخٍ وَمَنْ قَالَ عَلَى كُلِّ قَائِمٍ إِلَى الصَّلَاةِ أَنْ يَتَوَضَّأَ لَهَا احْتَجَّ بِظَاهِرِ الْآيَةِ وَبِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمَنْ قَالَ: هِيَ عَلَى النَّدْبِ احْتَجَّ بِفِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِأَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمْ يَقُلْ هَذَا وَاجِبٌ فَيَتَأَوَّلُ أَنَّهُ يَفْعَلُ هَذَا إِرَادَةَ الْفَضْلِ وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا أَنَّهُ قَدْ صَحَّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ تَوَضَّأَ وضُوءًا خَفِيفًا ثُمَّ قَالَ: هَذَا وضُوءُ مَنْ لَمْ يُحْدِثْ وَكَذَا عَنْ عُمَرَ أَيْضًا وَيُحْتَجُّ بِحَدِيثِ غُطَيْفٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ تَوَضَّأَ عَلَى طَهَارَةٍ كُتِبَتْ لَهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ وَأَمَّا مَنْ قَالَ الْمَعْنَى إِذَا قُمْتُمْ مِنَ النَّوْمِ فَيَحْتَجَّ بِأَنَّ فِي الْقُرْآنِ الْوضُوءَ عَلَى النَّائِمِ، وَهَذَا قَوْلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ.
كَمَا حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ سَهْلٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يوسُفَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، أَنَّ تَفْسِيرَ، هَذِهِ الْآيَةِ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} [المائدة: 6] الْآيَةَ أَنَّ ذَلِكَ إِذَا قَامَ مِنَ الْمَضْجَعِ يَعْنِي النَّوْمَ.
وَالْقَوْلُ السَّابِعُ: قَوْلُ الشَّافِعِيِّ قَالَ: لَوْ وُكِّلْنَا إِلَى الْآيَةِ لَكَانَ عَلَى كُلِّ قَائِمٍ إِلَى الصَّلَاةِ الطَّهَارَةُ فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّلَوَاتِ بِطُهْرٍ وَاحِدٍ بَيْنَهَا.
وَمَعْنَى هَذَا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} [المائدة: 6] وَقَدْ أَحْدَثْتُمْ {فَاغْسِلُوا وجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} وَقَدْ زَعَمَ قَوْمٌ أَنَّ هَذَا نَاسِخٌ لِلْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَسَنُبَيِّنُ مَا فِي ذَلِكَ وَأَنَّهُ لَيْسَ بِنَاسِخٍ لَهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَقَالَ قَوْمٌ فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: {وَأَرْجُلِكُمْ} بِالْخَفْضِ إِنَّهُ مَنْسُوخٌ بِفِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَوْلُهُ لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ الَّذِينَ تَقُومُ بِهِمُ الْحُجَّةُ رَوَوْا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَسَلَ قَدَمَيْهِ وَفِي أَلْفَاظِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذَا غَسَلَ قَدَمَيْهِ خَرَجَتِ الْخَطَايَا مِنْ قَدَمَيْهِ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّهُ قَالَ فَإِذَا مَسَحَ قَدَمَيْهِ، وَصَحَّ عَنْهُ: «وَيْلٌ لِلْعَرَاقِيبِ مِنَ النَّارِ وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ» وَأَنَّهُ أَمَرَ بِتَخْلِيلِ الْأَصَابِعِ وَلَوْ كَانَ الْمَسْحُ جَائِزًا مَا كَانَ لِهَذَا مَعْنًى.
وَقَالَ قَوْمٌ قَدْ صَحَّ الْغُسْلُ بِنَصِّ كِتَابِ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ فِي الْقِرَاءَةِ بِالنَّصْبِ وَبِفِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَوْلِهِ وَمَنِ ادَّعَى أَنَّ الْمَسْحَ جَائِزٌ فَقَدْ تَعَلَّقَ بِشُذُوذٍ.
وَقَالَ قَوْمٌ الْغُسْلُ وَالْمَسْحُ جَمِيعًا وَاجِبَانِ بِكِتَابِ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ بِالنَّصْبِ وَالْخَفْضِ مُسْتَفِيضَةٌ قَدْ قَرَأَ بِهَا الْجَمَاعَةُ فَمِمَّنْ قَالَ إِنَّ مَسْحَ الرِّجْلَيْنِ مَنْسُوخٌ الشَّعْبِيُّ.
كَمَا حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْأَزْدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مَرْزُرقٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: نَزَلَ الْقُرْآنُ بِالْمَسْحِ وَالسُّنَّةُ بِالْغَسْلِ.
وَمَنْ قَالَ قَدْ صَحَّ الْغُسْلُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ احْتَجَّ بِالْقِرَاءَةِ بِالنَّصْبِ وَبِمَا صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَمَنْ قَالَ: هُمَا وَاجِبَانِ قَالَ هُمَا بِمَنْزِلَةِ آيَتَيْنِ لِصِحَّةِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَنْ جَمَاعَةٍ تَقُومُ بِهِمُ الْحُجَّةُ.
كَمَا حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدٍ الْأَزْدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا قَيْسٌ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ زَرٍّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّهُ: قَرَأَ {وَأَرْجُلَكُمْ} بِالنَّصْبِ.
قَالَ وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خُزَيْمَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ سَمِعْتُ هُشَيْمًا، يَقُولُ أَخْبَرَنَا خَالِدٌ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ: قَرَأَ {وَأَرْجُلَكُمْ} وَقَالَ عَادَ إِلَى الْغَسْلِ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَهَذِهِ قِرَاءَةُ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَنَافِعٌ، وَالْكِسَائِيُّ.
وَقَرَأَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ {وَأَرْجُلِكُمْ} بِالْخَفْضِ وَهِيَ قِرَاءَةُ أَبَى جَعْفَرٍ، وَأَبِي عَمْرٍو، وَعَاصِمٍ، وَالْأَعْمَشِ، وَحَمْزَةَ.
عَلَى أَنَّهُ يُقَالُ تَمَسَّحْتُ بِمَعْنَى تَطَهَّرْتُ لِلصَّلَاةِ فَيَكُونُ عَلَى هَذَا الْخَفْضُ كَالنَّصْبِ.
وَسَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ سُلَيْمَانَ يَقُولُ التَّقْدِيرُ وَأَرْجُلَكُمْ غَسْلًا ثُمَّ حُذِفَ هَذَا لعِلْمِ السَّامِعِ.
وَمِمَّنْ قَالَ إِنَّ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ مَنْسُوخٌ بِسُورَةِ الْمَائِدَةِ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَالَ: مَا مَسَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْخُفَّيْنِ بَعْدَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ.
وَمِمَّنْ رَدَّ الْمَسْحَ أَيْضًا عَائِشَةُ وَأَبُو هُرَيْرَةَ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: مَنْ نَفَى شَيْئًا وَأَثْبَتَهُ غَيْرُهُ فَلَا حُجَّةَ لِلنَّافِي وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي الْأَحْكَامِ وَالْمَعْقُولِ وَقَدْ أَثْبَتَ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بَعْدَ الْمَائِدَةِ.
فَمِمَّنْ أَثْبَتَ الْمَسْحَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَبِلَالٌ، وَعَمْرٌو بْنُ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيُّ، وَصَفْوَانُ بْنُ عَسَّالٍ، وَحُذَيْفَةُ، وَبُرَيْدَةُ، وَخُزَيْمَةُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأَبُو بَكْرٍ، وَسَهْلُ بْنُ سَعْدٍ، وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَسَلْمَانُ، وَجَرِيرٌ الْبَجَلِيُّ، وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، وَعَنْ عُمَرَ بنِ الْخَطَّابِ غَيْرُ مُسْنَدٍ صَحِيحٍ.
فَمِنْ ذَلِكَ: مَا حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بنُ شُعَيْبٍ، أَبُوعَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَهُوَ ابْنُ رَاهَوَيْهِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ عَمْرِو بنِ قَيْسٍ الْمُلَائِيِّ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُخَيْمِرَةَ، عَنْ شُرَيْحِ بْنِ هَانِئٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُسَافِرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ، وَيَوْمًا وَلَيْلَةً لِلْمُقِيمِ يَعْنِي فِي الْمَسْحِ».
قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَأَخْبَرَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُخَيْمِرَةَ، عَنْ شُرَيْحِ بْنِ هَانِئٍ، قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ عَنِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ قَالَتِ: ائْتِ عَلِيًّا فَإِنَّهُ أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنِّي فَأَتَيْتُ عَلِيًّا فَسَأَلْتُهُ عَنِ الْمَسْحِ فَقَالَ: «أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَجْعَلَ لِلْمُقِيمِ يَوْمًا وَلَيْلَةً وَلِلْمُسَافِرِ ثَلَاثًا».
قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَأَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَفْصٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ هَمَّامٍ، أَنَّ، جَرِيرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيَّ: «تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ فَقِيلَ لَهُ أَتَمْسَحُ؟ فَقَالَ: قَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْسَحُ».
فَكَانَ أَصْحَابُ عَبْدِ اللَّهِ يُعْجِبُهُمْ قَوْلُ جَرِيرٍ لِأَنَّ إِسْلَامَهُ كَانَ قَبْلَ مَوْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَسِيرٍ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَكَذَا قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ أَنَا أَسْتَحْسِنُ حَدِيثَ جَرِيرٍ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ لِأَنَّ إِسْلَامَهُ كَانَ بَعْدَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ.
وَقَدْ عَارَضَ قَوْمٌ مِنَ الَّذِينَ يَمْنَعُونَ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ بِأَنَّ الْوَاقِدِيَّ رَوَى عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جَعْفَرٍ عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ جَرِيرًا الْبَجَلِيَّ أَسْلَمَ فِي سَنَةِ عَشْرٍ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَأَنَّ الْمَائِدَةَ نَزَلَتْ فِي ذِي الْحِجَّةِ يَوْمَ عَرَفَاتٍ.
قَالُوا: فَإِسْلَامُ جَرِيرٍ عَلَى هَذَا قَبْلَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَالَّذِي احْتَجَّ بِهَذَا جَاهِلٌ بِمَعْرِفَةِ الْحَدِيثِ لِأَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَا تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ لِوَهَائِهِ وَضَعْفِ إِسْنَادِهِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ قَوْلَهُ نَزَلَتِ الْمَائِدَةُ يَوْمَ عَرَفَاتٍ فِي ذِي الْحِجَّةِ جَهْلٌ أَيْضًا لِأَنَّ الرِّوَايَةَ أَنَّهُ نَزَلَ مِنْهَا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ آيَةٌ وَاحِدَةٌ وَهِيَ {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة: 3].
وَلَوْ صَحَّ مَا قَالَ إِنَّ الْمَسْحَ كَانَ قَبْلَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ لَمَا كَانَتْ لَهُ فِيهِ حُجَّةٌ وَلَكَانَ الْمَسْحُ ثَابِتًا وَيَكُونُ الْقُرْآنُ نَزَلَ بِالْغَسْلِ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ خُفَّانِ.
وَيُقَالُ لَهُ أَيْضًا مَا مَعْنَى الْمَسْحِ قَبْلَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ وَهَلْ كَانَ التَّوَضُّؤُ لِلصَّلَاةِ وَاجِبًا قَبْلَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ فَإِنْ كَانَ وَاجِبًا فَقَدْ صَحَّ أَنَّ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفِّ بَدَلٌ مِنَ الْغَسْلِ وَإِنْ قَالَ كَانَ غَيْرَ وَاجِبٍ قِيلَ لَهُ فَمَا مَعْنَى الْمَسْحِ وَالْغَسْلُ غَيْرُ وَاجِبٍ وَكَذَا الْمَسْحُ.
وَهَذَا بَيِّنٌ فِي تَثْبِيتِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَهُوَ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ الَّذِينَ تَقُومُ بِهِمُ الْحُجَّةُ.
وَاخْتَلَفُوا فِي الْآيَةِ الرَّابِعَةِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هِيَ مُحْكَمَةٌ.

.بَابُ ذِكْرِ الْآيَةِ الرَّابِعَةِ قَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ} [المائدة: 13].

مِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ إِنَّمَا كَانَ الْعَفْوُ وَالصَّفْحُ قَبْلَ الْأَمْرِ بِالْقِتَالِ ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِالْأَمْرِ بِالْقِتَالِ كَمَا حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ نَافِعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ} [المائدة: 13]، قَالَ: نَسَخَهَا {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} [التوبة: 29] الْآيَةَ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: لَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ لِأَنَّهَا نَزَلَتْ فِي يَهُودَ غَدَرُوا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَدْرَةً وَأَرَادُوا قَتْلَهُ فَأَمَرَهُ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ بِالصَّفْحِ عَنْهُمْ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَهَذَا لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ أُمِرَ بِالصَّفْحِ عَنْهُمْ بَعْدَ أَنْ لَحِقَتْهُمُ الذِّلَّةُ وَالصَّغَارُ فَصَفَّحَ عَنْهُمْ فِي شَيْءٍ بِعَيْنِهِ وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي الْآيَةِ الْخَامِسَةِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ هِيَ نَاسِخَةٌ وَقَالَ بَعْضُهُمْ هِيَ مُحْكَمَةٌ غَيْرُ نَاسِخَةٍ.

.بَابٌ ذِكْرِ الْآيَةِ الْخَامِسَةِ:

قَالَ جَلَّ وَعَزَّ: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقْطَعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} [المائدة: 33].
فَقَالَ قَوْمٌ: هَذِهِ نَاسِخَةٌ لِمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَهُ فِي أَمْرِ الْعُرَنِيِّينَ مِنَ التَّمْثِيلِ بِهِمْ وَسَمْلِ أَعْيُنَهُمْ وَتَرْكِهِمْ حَتَّى مَاتُوا فَمِمَّنْ قَالَ هَذَا مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ قَالَ: لَمَّا فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ وُعِظَ وَنُسِخَ هَذَا الْحُكْمِ.
وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِأَحَادِيثَ صِحَاحٍ فَمِنْ ذَلِكَ:
مَا حَدَّثَنَاهُ أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ أَخْبَرَنِي عَمْرُو بنُ عُثْمَانَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ كَثِيرٍ، عَنِ الْوَلِيدِ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ يَحْيَى، عِنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَنَسٍ: «أَنَّ نَفَرًا مِنْ عُكْلٍ قَدِمُوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْلَمُوا فَاجْتَوَوْا الْمَدِينَةَ فَأَمَرَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَخْرُجُوا إِلَى إِبِلِ الصَّدَقَةِ فَيَشْرَبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا فَفَعَلُوا فَقَتَلُوا رَاعِيَهَا وَاسْتَاقُوهَا فَبَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي طَلَبِهِمْ قَافَةً فَأُتِيَ بِهِمْ فَقَطَعَ أَيْدِيَهِمْ وَأَرْجُلَهُمْ وَلَمْ يَحْسِمْهُمْ وَسَمَلَ أَعْيُنَهُمْ وَتَرَكَهُمْ حَتَّى مَاتُوا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا} [المائدة: 33] الْآيَةَ».
قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَأَخْبَرَنِي الْفَضْلُ بْنُ سَهْلٍ، قَالَ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ غَيْلَانَ، ثِقَةً مَأْمُونًا قَالَ حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: إِنَّمَا سَمَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْيُنَ أُولَئِكَ لِأَنَّهُمْ سَمَلُوا أَعْيُنَ الرِّعَاءِ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ حَدِيثٍ يُرْوَى فِي هَذَا الْبَابِ وَأَغْرَبِهِ وَأَصَحِّهِ وفيه حُجَّةٌ لِلشَّافِعِيِّ فِي الْقِصَاصِ.
فأما الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ فَيَحْتَجُّ بِهِ مَنْ جَعَلَ الْآيَةَ نَاسِخَةً.
وفيه مِنَ الْغَرِيبِ قَوْلُهُ: فَاجْتَوَوْا الْمَدِينَةَ قَالَ أَبُو زَيْدٍ يُقَالُ اجْتَوَيْتُ الْبِلَادَ إِذَا كَرِهْتُهَا وَإِنْ كَانَتْ مُوَافِقَةً لَكَ فِي بَدَنِكَ، وَاسْتَوَبَلْتَهَا إِذَا لَمْ تَكُنْ تُوَافِقُكَ فِي بَدَنِكَ وَإِنْ كُنْتَ مُحِبًّا لَهَا.
وفيه وَسَمَلَ أَعْيُنَهُمْ، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: السَّمْلُ أَنْ تُفْقَأَ الْعَيْنُ بِحَدِيدَةٍ مُحْمَاةٍ أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ يُقَالُ: سَمَلْتُهَا أَسْمُلُهَا سَمْلًا وَقَدْ يَكُونُ السَّمْلُ بِالشُّوكِ كَمَا قَالَ أَبُو ذُؤَيْبٍ يَرْثِي بَنِينَ لَهُ مَاتُوا: البحر الكامل:
فَالْعَيْنُ بَعْدَهُمُ كَأَنَّ حِدَاقَهَا ** سُمِلَتْ بِشَوْكٍ فَهْيَ عُورٌ تَدْمَعُ

وَبَعْضُ مَنْ يَقُولُ إِنَّهَا مُحْكَمَةٌ غَيْرُ نَاسِخَةٍ يَقُولُ الْحُكَمَانِ قَائِمَانِ جَمِيعًا وَيُحْتَجُّ بِالْحَدِيثِ أَنَّ السَّمْلَ كَانَ قِصَاصًا وَهُوَ أَحْسَنُ مَا قِيلَ فِيهِ وَقَالَ أَبُو الزِّنَادِ لَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَظَ وَنَهَى عَنِ الْمُثْلَةِ فَلَمْ يَعُدْ، وَقَالَ غَيْرُهُ: إِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ عَلَى الِاجْتِهَادِ كَمَا فَعَلَ فِي الْغَنَائِمِ حَتَّى نَزَلَتْ {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} [الأنفال: 68] الْآيَةَ وَقَالَ آخَرُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَفْعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا مِنْ هَذَا وَمَا أَشْبَهَهُ إِلَّا بِوَحْيٍ مُنَزَّلٍ أَوْ إِلْهَامٍ مِنَ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ لِقَوْلِهِ جَلَّ وَعَزَّ: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم: 3] وَلِفَرْضِهِ طَاعَتَهُ وَقَالَ السُّدِّيُّ: إِنَّمَا أَرَادَ أَنْ يَفْعَلَ فَنُهِيَ عَنْ ذَلِكَ وَأُمِرَ بِالْحُدُودِ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَقَدْ ذَكَرْنَا الْحَدِيثَ بِغَيْرِ مَا قَالَ.
فأما مَا فِي الْآيَةِ مِنْ قَوْلِهِ جَلَّ وَعَزَّ أَوْ؛ وَمِنَ اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي تَخْيِيرِ الْإِمَامِ أَنْ يَفْعَلَ أَيَّ هَذِهِ شَاءَ وَمِنْ قَوْلِ بَعْضِهِمْ بَلْ ذَلِكَ عَلَى التَّرْتِيبِ فَنَذْكُرُ مِنْهُ مَا تَكْمُلُ بِهِ الْفَائِدَةُ فِي عِلْمِ الْآيَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَنْ يَلْزَمُهُ اسْمُ مُحَارَبَةِ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى خَمْسَةِ أَقْوَالٍ: فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ الْمُحَارِبُ لِلَّهِ جَلَّ وَعَزَّ وَرَسُولِهِ هُوَ الْمُشْرِكُ الْمُعَانِدُ دِينَ اللَّهِ.
فأما مَنْ كَانَ مُسْلِمًا وَخَرَجَ مُتَلَصِّصًا فَلَا يَلْزَمُهُ هَذَا الِاسْمُ وَهَذَا الْقَوْلُ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ يَرْوَى عَنِ الْحَسَنِ، وَعَطَاءٍ وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ الْمُحَارِبُ لِلَّهِ جَلَّ وَعَزَّ وَرَسُولِهِ الْمُرْتَدُّ وَهَذَا قَوْلُ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ.
كَمَا قُرِئَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ، عَنْ أَبِي الْأَزْهَرِ، قَالَ: حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: إِذَا خَرَجَ الْمُسْلِمُ فَشَهَرَ سِلَاحَهُ ثُمَّ تَلَصَّصَ ثُمَّ جَاءَ تَائِبًا أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَلَوْ تُرِكَ لَبَطَلَتِ الْعُقُوبَاتُ إِلَّا أَنْ يَلْحَقَ بِبِلَادِ الشِّرْكِ ثُمَّ يَأْتِي تَائِبًا فَيُقْبَلُ مِنْهُ.
وَقَالَ قَوْمٌ: الْمُحَارِبُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَنْ فَسَقَ فَشَهَرَ سِلَاحَهُ وَخَرَجَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ يُحَارِبُهُمْ وَرَدُّوا عَلَى مَنْ قَالَ لَا يَكُونُ الْمُحَارِبُ لِلَّهِ جَلَّ وَعَزَّ وَرَسُولِهِ إِلَّا مُشْرِكًا بِحَدِيثِ مُعَاذٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ عَادَى وَلِيًّا مِنَ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ فَقَدْ نَادَى اللَّهَ جَلَّ وَعَزَّ بِالْمُحَارَبَةِ».
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْأَزْدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْحَكَمِ الْحِبَرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ، مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ صُبَيحٍ، مَوْلَى أُمِّ سَلَمَةَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَفَاطِمَةَ وَالْحَسَنِ، وَالْحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَمْ أَنَا سَلَمٌ لِمَنْ سَالَمْتُمْ، وَحَرْبٌ لِمَنْ حَارَبْتُمْ» أَفَلَا تَرَى قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنْ لَيْسَ بِكَافِرٍ وَتَسْمِيَتَهُ إِيَّاهُ مُحَارِبًا وَقَدْ رَدَّ أَبُو ثَوْرٍ وَغَيْرُهُ عَلَى مَنْ قَالَ إِنَّ الْآيَةَ فِي الْمُشْرِكِينَ بِأَشْيَاءَ بَيِّنَةٍ قَالَ قَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُشْرِكَ إِذَا فَعَلَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ ثُمَّ أَسْلَمَ قَبْلَ أَنْ يَتُوبَ مِنْهَا أَنَّهُ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ شَيْءٍ مِنْ حُدُودِهَا لِقَوْلِ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] فَهَذَا كَلَامٌ بَيِّنٌ حَسَنٌ وَقَالَ غَيْرُهُ لَوْ كَانَتِ الْآيَةُ فِي الْمُشْرِكِينَ لَوَجَبَ فِي أَسْرَى الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ، وَهَذَا لَا يَقُولُهُ أَحَدٌ وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْآيَةُ عَامَّةٌ فِي الْمُشْرِكِينَ وَالْمُسْلِمِينَ فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ، وَالْقَوْلُ الْخَامِسُ: أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ عَامَّةً عَلَى ظَاهِرِهَا إِلَّا أَنْ يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى خَارِجٍ مِنْهَا فَيَخْرُجُ بِالدَّلِيلِ فَقَدْ دَلَّ مَا ذَكَرْنَاهُ عَلَى أَنَّ أَهْلَ الْحَرْبِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ خَارِجُونَ مِنْهَا فَهَذَا أَحْسَنُ مَا قِيلَ فِيهَا، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِيمَنْ لَزِمَهُ اسْمُ الْمُحَارَبَةِ أَيَكُونُ الْإِمَامُ مُخَيَّرًا فِيهِ أَمْ تَكُونُ عُقُوبَتُهُ عَلَى قَدْرِ جِنَايَتِهِ فَقَالَ قَوْمٌ: الْإِمَامُ مُخَيَّرٌ فِيهِ عَلَى أَنَّهُ يَجْتَهِدُ وَيَنْظُرُ لِلْمُسْلِمِينَ، فَمِمَّنْ قَالَ هَذَا مِنَ الْفُقَهَاءِ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَمُجَاهِدٍ، وَالضَّحَّاكُ وَمِمَّنْ قَالَ الْعُقُوبَةُ عَلَى قَدْرِ الْجِنَايَةِ وَلَيْسَ إِلَى الْإِمَامِ فِي ذَلِكَ خِيَارٌ الْحَسَنُ، وَعَطَاءٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَأَبُو مِجْلَزٍ وَهُوَ مَرْوِيٌّ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِلَّا أَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَأَةَ عَنْ عَطِيَّةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْحَجَّاجُ وَعَطِيَّةُ لَيْسَا بِذَاكَ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَقَالَ بِهَذَا مِنَ الْفُقَهَاءِ الْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ، سُفْيَانَ، وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ غَيْرَ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي التَّرْتِيبِ فِي أَكْثَرِ الْآيَةِ فَمَا عَلِمْتُ أَنَّهُمُ اتَّفَقُوا إِلَّا فِيمَنْ خَرَجَ فَقَتَلَ فَإِنَّ أَصْحَابَ التَّرْتِيبِ أَجْمَعُوا عَلَى قَتْلِهِ وَسَنَذْكُرُ اخْتِلَافَهُمْ.
فأما أَصْحَابُ التَّخْيِيرِ الَّذِينَ قَالُوا ذَلِكَ إِلَى الْإِمَامِ فَحُجَّتُهُمْ ظَاهَرُ الْآيَةِ وَأَنَّ أَوْ فِي الْعَرَبِيَّةِ كَذَا مَعْنَاهَا إِذَا قُلْتَ خُذْ دِينَارًا أَوْ دِرْهَمًا وَرَأَيْتُ زَيْدًا، أَوْ عَمْرًا وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة: 89] وَكَذَا {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] أَنَّهُ لَا اخْتِلَافَ أَنَّ هَذَا عَلَى التَّخْيِيرِ وَكَذَا مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مَرْدُودٌ إِلَى مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ وَإِلَى لُغَةِ الَّذِينَ نَزَلَ الْقُرْآنُ بَلَغَتْهُمْ فَعَارَضَهُمْ مَنْ يَقُولُ بِالتَّرْتِيبِ بِحَدِيثِ عُثْمَانَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَعَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ كُفْرٍ بَعْدَ إِيمَانٍ أَوْ زِنًا بَعْدَ إِحْصَانٍ أَوْ قَتْلِ نَفْسٍ بِغَيْرِ نَفْسٍ» فَعَارَضَهُمُ الْآخَرُونَ بِأَشْيَاءَ مِنْهَا أَنَّ الْمُحَارِبُ مُضْمُومٌ إِلَى هَذِهِ الثَّلَاثَةِ كَمَا ضَمَمْتُمْ إِلَيْهَا أَشْيَاءَ لَيْسَتْ كُفْرًا وَكَمَا قَالَ جَلَّ وَعَزَّ: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} [الأنعام: 145] الْآيَةَ، فَضَمَمْتُمْ إِلَيْهَا تَحْرِيمَ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ وَكُلَّ ذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ لْآيَةِ الْمُحَارِبَةَ حُكْمًا آخَرَ وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ الْأَمْرَ لِلْمُحَارِبِ لَيْسَ إِلَى الْوَلِيِّ وَإِنَّمَا هُوَ إِلَى الْإِمَامِ وَاحْتَجَّ بِأَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَدْ رَوَتْ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذِكْرَ الْمُحَارِبِ.
كَمَا قُرِئَ عَلَى أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ، عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ طَهْمَانَ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رَفِيعٍ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثِ خِصَالٍ: زَانٍ مِحْصَنٌ يُرْجَمُ، أَوْ رَجُلٌ قَتَلَ مُتَعَمِّدًا فَيُقْتَلُ، أَوْ رَجُلٌ خَرَجَ مِنَ الْإِسْلَامِ فَيُحَارِبُ فَيُقْتَلُ أَوْ يُصْلَبُ أَوْ يُنْفَى مِنَ الْأَرْضِ».
وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِأَنَّ أَكْثَرَ التَّابِعِينَ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ مُخَيَّرٌ وَكَذَا ظَاهِرُ الْآيَةِ.
كَمَا قُرِئَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُوسَى الْجَوْزِيِّ بِمَدِينَةِ السَّلَامِ عَنْ يَعْقُوبَ الدَّوْرَقِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ، عَنِ الْحَسَنِ، وَعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا} [المائدة: 33] الْآيَةَ قَالَا: الْإِمَامُ مُخَيَّرٌ فِيهِ.
وَحَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ سَهْلٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} [المائدة: 33] قَالَ: مَنْ شَهَرَ السِّلَاحَ فِي فِئَةِ الْإِسْلَامِ وَأَفْسَدَ السَّبِيلَ فَظُهِرَ عَلَيْهِ وَقُدِرَ فإمامُ الْمُسْلِمِينَ مُخَيَّرٌ فِيهِ إِنْ شَاءَ قَتَلَهُ وَإِنْ شَاءَ صَلَبَهُ وَإِنْ شَاءَ قَطَعَ يَدَهُ وَرِجْلَهُ قَالَ: {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} قَالَ: يَهْرُبُوا وَيَخْرُجُوا مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ فَإِنْ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْدَرَ عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنِ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
ثُمَّ قَالَ بِهَذَا مِنَ التَّابِعِينَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَمُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ وَهُوَ قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ.
فأما الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَأَنَّ ذَلِكَ عَلَى قَدْرِ جِنَايَاتِهِمْ فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهَا مِنْ رِوَايَةِ الْحَجَّاجِ، عَنْ عَطِيَّةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33]، قَالَ: إِذَا خَرَجَ وَأَظْهَرَ السِّلَاحَ وَقَتْلَ قُتِلَ وَإِنْ أَخَذَ الْمَالَ وَلَمْ يَقْتُلْ قُطِعَتْ يَدُهُ وَرِجْلُهُ وَإِنْ أَخَذَ الْمَالَ وَقَتَلَ قُتِلَ ثُمَّ صُلِبَ. وَهَذَا قَوْلُ قَتَادَةَ وعَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ وَزَعَمَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ أَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ إِلَّا عَنْهُمَا يَعْنِي مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ لِأَنَّ الرِّوَايَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ضَعِيفَةٌ عِنْدَهُ وَعِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ إِذَا خَرَجَ وَقَتَلَ قُتِلَ فَإِنْ أَخَذَ الْمَالَ وَقَتَلَ صُلِبَ وَقُتِلَ مَصْلُوبًا وَإِنْ أَخَذَ الْمَالَ وَلَمْ يَقْتُلْ قُطِعَتْ يَدُهُ وَرِجْلُهُ وَقَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ إِذَا أَخَذَ الْمَالَ وَقَتَلَ صُلِبَ وَقُتِلَ بِالْحَرْبَةِ مَصْلُوبًا وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ إِذَا أَخَذَ الْمَالَ وَقَتَلَ صُلِبَ وَقُتِلَ عَلَى الْخَشَبَةِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إِذَا قَتَلَ قُتِلَ وَإِذَا أَخَذَ الْمَالَ وَلَمْ يَقْتُلْ قُطِعَتْ يَدُهُ وَرِجْلُهُ مِنْ خِلَافٍ وَإِذَا أَخَذَ الْمَالَ وَقَتَلَ فَالسُّلْطَانُ مُخَيَّرٌ فِيهِ إِنْ شَاءَ قَطَعَ يَدَهُ وَرِجْلَهُ وَقَتْلَهُ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَقْطَعْ يَدَهُ وَرِجْلَهُ وَقَتْلَهَ وَصَلَبَهُ، قَالَ أَبُو يُوسُفَ: الْقَتْلَ يَأْتِي عَلَى كُلُّ شَيءٍ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِذَا أَخَذَ الْمَالَ قُطِعَتْ يَدُهُ الْيُمْنَى وَحُسِمَتْ، ثُمَّ قُطِعَتْ رِجْلُهُ الْيُسْرَى وَحُسِمَتْ وَخُلِّيَ وَإِذَا قَتَلَ قُتِلَ وَإِذَا أَخَذَ الْمَالَ وَقَتَلَ قُتِلَ وَصُلِبَ وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ يُصْلَبُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ قَالَ وَإِنْ حَضَرَ وَكَثُرَ وهِيبَ فَكَانَ رِدَاءً لِلْعَدُوِّ عُزِّرَ وَحُبِسَ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: اخْتَلَفَ الَّذِينَ قَالُوا بِالتَّرْتِيبِ وَاخْتُلِفَ عَنْ بَعْضِهِمْ حَتَّى وَقَعَ فِي ذَلِكَ اضْطِرَابٌ كَثِيرٌ فَمِمَّنِ اخْتُلِفَ عَنْهُ ابْنُ عَبَّاسٍ كَمَا ذَكَرْنَاهُ وَالْحَسَنُ فَرُوِيَ عَنْهُ التَّخْيِيرُ وَالتَّرْتِيبُ وَأَنَّهُ قَالَ إِذَا خَرَجَ وَقَتَلَ قُتِلَ فَإِنْ أَخَذَ الْمَالَ وَلَمْ يَقْتُلْ قُطِعَتْ يَدُهُ وَرِجْلُهُ وَنُفِيَ وَإِنْ أَخَذَ الْمَالَ وَقَتَلَ قُتِلَ وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَنْبَلٍ: إِنْ قَتَلَ قُتِلَ وَإِنْ أَخَذَ الْمَالَ وَلَمْ يَقْتُلْ قُطِعَتْ يَدُهُ وَرِجْلُهُ. وَقَالَ قَوْمٌ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُصْلَبَ قَبْلَ الْقَتْلِ فَيُحَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّلَاةِ وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَحُكِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ أَكْرَهُ أَنْ يَقْتَلَ مَصْلُوبًا لِنَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْمُثْلَةِ وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: الْإِمَامُ مُخَيَّرٌ عَلَى ظَاهِرِ الْآيَةِ. وَاحْتَجَّ غَيْرُهُ بِأَنَّ الَّذِينَ قَالُوا بِالتَّخْيِيرِ مَعَهُمْ ظَاهَرُ الْآيَةِ وَأَنَّ الَّذِينَ قَالُوا بِالتَّرْتِيبِ وَإِنِ اخْتَلَفُوا فَإِنَّكَ تَجِدُ فِي أَقْوَالِهِمْ أَنَّهُمْ يَجْمَعُونَ عَلَيْهِ حَدَّيْنِ فَيَقُولُونَ يُقْتُلُ وَيُصْلَبُ وَيَقُولُ بَعْضُهُمْ يُصْلَبُ وَيُقْتُلُ، وَيَقُولُ بَعْضُهُمْ تُقْطَعُ يَدُهُ وَرِجْلُهُ وَيُنْفَى، وَلَيْسَ كَذَا الْآيَةُ، وَلَا كَذَا مَعْنَى أَوْ فِي اللُّغَةِ.
فأما مَعْنَى أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ فَفِيهِ أَقْوَالٌ مِنْهَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّهُمْ يَهْرُبُونَ حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ، وَهَذَا أَيْضًا مَحْكِيٌّ مَعْنَاهُ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُمْ يَخْرُجُونَ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ وَيُحَارَبُونَ، وَكَذَا قَالَ الزُّهْرِيُّ مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ يُنْفَوْنَ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ وَكُلَّمَا أَقَامُوا فِي بَلَدٍ نُفُوا مِنْهُ.
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ يَنْفِيَهُ السُّلْطَانُ الَّذِي أَحْدَثَ هَذَا فِي عَمَلِهِ عَنْ عَمَلِهِ.
وَقَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يُنْفَى مِنَ الْبَلَدِ الَّذِي أَحْدَثَ فِيهِ هَذَا إِلَى غَيْرِهِ ثُمَّ يُحْبَسُ فِيهِ. وَيَحْتَجُّ لِمَالِكٍ بِأَنَّ الزَّانِيَ كَذَا يُنْفَى وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ لَمَّا قَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} [المائدة: 33] وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ لَا بُدُّ أَنْ يَسْتَقِرُّوا فِي الْأَرْضِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ أَوْلَى بِهِمْ مِنَ الْحَبْسِ لِأَنَّهُ إِذَا حُبِسَ فَقَدْ نُفِيَ مِنَ الْأَرْضِ إِلَّا مِنْ مَوْضِعَ اسْتِقْرَارِهِ.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ أَيْضًا فِي الْآيَةِ السَّادِسَةِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إِنَّهَا مَنْسُوخَةٌ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هِيَ مُحْكَمَةٌ.